الأربعاء، 20 مايو 2009

فقــة الاستشــارة

نماذج من الشوري في حياة الصحابة رضي الله عنهم
وأمرهم شورى بينهم ذكرت عند تفسير قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(
[1]) [سورة الشورى، الآية: 38] أن هذه الآية نـزلت في الأنصار قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، حيث كانوا يتشاورون فيما بينهم، وهذه الآية وإن كانت نـزلت في الأنصار، فإن مدلولها أعم من ذلك، حيث إن الصحابة -رضوان الله عليهم- استمروا يمارسون الشورى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر يعدو على الحصر، وسأشير إلى بعض تلك الوقائع بإيجاز، مبينا أن الشورى كانت قبل هجرته صلى الله عليه وسلم وفي أثناء حياته في مكة والمدينة -كما سبق- وكذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فهي منهج حياة مارسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقا ولاحقا، وهذا معنى قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([2]) [سورة الشورى، الآية: 38 ].
ونأتي الآن إلى ذكر بعض هذه الشواهد:
1- اجتمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في سقيفة بني ساعدة، وتشاوروا فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مداولة مشهورة اتفق رأيهم على تولية أبي بكر رضي الله عنه فبايعوه على ذلك، في صورة من صور الشورى الرائعة، التي سجلها التاريخ بأحرف من ذهب (
[3]).
2- لما أراد أبو بكر غزو الروم دعا عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبا عبيدة بن الجراح، وعددا من المهاجرين والأنصار، وأخبرهم عما أراد، وبين لهم وجهة نظره في ذلك، ثم قال: وهذا رأيي الذي رأيته، فليشر عليّ أمرؤ برأيه.
فأشار عمر برأيه، وكان مما قال في ختام كلامه: "سرّب إليهم الخيل في أثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال، والجنود تتبعها الجنود، فإن الله ناصر دينه ومعز الإسلام بأهله".
ثم تكلم عبد الرحمن بن عوف، وكان مما قال: "ما أرى أن نقتحم عليهم اقتحاما، ولكن نبعث الخيول فتغير في قواصي أرضهم، ثم ترجع إليك، وهكذا".
* ثم قال أبو بكر: ما ترون.
فقال عثمان بن عفان: "إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم صلاحا فاعزم على إمضائه، فإنك غير ظنين".
فقام أغلب من في المجلس، وأيدوا ما قاله عثمان في تفويض الأمر إليه (
[4]).
3- بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. ارتد بعض العرب، وامتنع آخرون عن أداء الزكاة، فتشاور الصحابة في ذلك، وكان لعمر رضي الله عنه رأي معروف، وخالفه في ذلك أبو بكر رضي الله عنه وثبت أبو بكر على رأيه بعد ذكر الأدلة على صحة ما ذهب إليه، فشرح الله صدر عمر واتفقت كلمة الصحابة على حرب المرتدين، وقتال مانعي الزكاة.
* ولولا هذه الشورى، والمحاورة المدعومة بالدليل لحدث شرخ كبير يصعب رتقه، في وقت كانت الأمة في أمس الحاجة إلى وحدة الكلمة، ورص الصفوف (
[5]).
4- وقد كان عمر رضي الله عنه يستشير كثيرا، ويجمع أهل بدر للمعضلات، قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبا، ولا أكثر علما، ولا أوسع علما من ابن عباس، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثم يقول: جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإذا أهم الأمر عمر بن الخطاب دعاه وقاله له: غص غواص.
* وذكر البيهقي أن عمر كان يدعو الفتيان، فيستشيرهم.
* وعند البيهقي -أيضا- قال ابن سيرين: إن عمر بن الخطاب كان يستشير، حتى إن كان ليستشير المرأة، فربما أبصر في قولها الشيء الحسن فيأخذ به (
[6]). قال ابن عاشور: وكان عمر يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور، ويتمثل لهم في كتبه بقول الشاعر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد

أشـيرا علي بالذي تريان (
[7])
وقد استشار عمر ابنته حفصة -رضي الله عنها- في مقدار المدة التي تصبر فيها المرأة عن زوجها.
وكذلك أشارت عليه أن يستخلف من بعده.
* وآخر مظهر من مظاهر الشورى في حياة عمر رضي الله عنه اختياره لأهل الشورى، وإسناد أمر الخلافة إليهم، وانتقل إلى الدار الآخرة، وأمر المسلمين شورى بينهم. -فرضي الله عنه وأرضاه- (
[8]).
5- واستمرت الشورى في خلافة عثمان وعلي -رضي الله عنهما-، وسيرتهما تزخر بالشواهد على ذلك، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالفتوحات، أم بإسناد الولايات، أم ما يجد من أحداث كانت تستدعي الشورى، بصوره فردية أو جماعية، فقد كان عثمان يستشير عليا في كثير من الأمور التي تواجه الخلافة الراشدة، وتحتاج إلى الرأي السديد والموقف الحازم، وهو ما اشتهر به أبو الحسن -رضي الله عنهم- أجمعين.
وكذلك كان علي في خلافته، وبخاصة بعد مواجهته للفتن والقلاقل التي كانت تحتاج إلى محض الرأي وصدق المشورة، وقد كان علي يستشير كثيرا من الصحابة، وبخاصة السابقين إلى الإسلام.
ومن خلال ما سبق يتضح لنا جليا معنى قوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(
[9]) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].

[1] - سورة الشورى آية: 38.
[2] - سورة الشورى آية: 38.
[3] - انظر: كتب السيرة. فالواقعة مشهورة.
[4] - انظر: حياة الصحابة 1 / 651، وملامح الشورى، ص265.
[5] - انظر: كتاب "أبو بكر الصديق" لمحمد رضا ص75 وما بعدها، وملامح الشورى.
[6] - انظر: لكل ما سبق ملامح الشورى ص303.
[7] - انظر: تفسير التحرير والتنوير 4 / 150.
[8] - انظر: ملامح الشورى ص347 وأخبار عمر ص433.
[9] - سورة الشورى آية: 38.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق